الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية **
قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي –بمصر- رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن العقيدة هي أساس الدين، وهي مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والركن الأول من أركان الإسلام(1) كان الصحابة –رضي الله عنهم- ليس عندهم أي شك فيما جاء به القرآن وما جاءت به سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكانت عقيدتهم مبنية على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا يعتريهم في ذلك شك ولا توقف، فما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم اعتقدوه ودانوا به، ولم يحتاجوا إلى كتابة تأليف؛ لأن هذا مسلّم به عندهم ومقطوع به وكانت عقيدتهم الكتاب والسنة، ثم درج على ذلك تلاميذهم من التابعين الذين أخذوا عنهم، فلم يكن هناك أخذ وردّ في العقيدة، كانت قضية مسلمة، وكان مرجعهم الكتاب والسنة. فلما ظهرت الفرق والاختلافات، ودخل في الدين من لم ترسخ العقيدة في قلبه، أو دخل في الإسلام وهو يحمل بعض الأفكار المنحرفة، ونشأ في الإسلام من لم يرجع إلى الكتاب ولا إلى السنة في العقيدة، وإنما يرجع إلى قواعد ومناهج أصلها أهل الضلال من عند أنفسهم، عند هذا احتاج أئمة الإسلام إلى بيان العقيدة الصحيحة وتحريرها وكتابتها وروايتها عن علماء الأمة، فدونوا كتب العقائد، واعتنوا بها، وصارت مرجعًا لمن يأتي بعدهم من الأمة إلى أن تقوم الساعة. وهذا من حفظ الله تعالى لهذا الدين، وعنايته بهذا الدين، أن قيض له حملة أمناء يبلغونه كما جاء عن الله وعن رسوله، ويردون تأويل المبطلين وتشبيه المشبهين، وصاروا يتوارثون هذه العقيدة خلفًا عن السلف. ومن جملة السلف الصالح الذين كانوا على الاعتقاد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، من جملتهم الأئمة الأربعة الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم من الأئمة الذين قاموا بالدفاع عن العقيدة وتحريرها، وبيانها وتعليمها للطلاب. وكان أتباع الأئمة الأربعة يعتنون بهذه العقيدة، ويتدارسونها ويحفظونها لتلاميذهم، وكتبوا فيها الكتب الكثيرة على منهج الكتاب والسنة، وما كان عليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون، وردوا العقائد الباطلة والمنحرفة، وبينوا زيفها وباطلها، وكذلك أئمة الحديث: كإسحاق بن راهويه، والبخاري، ومسلم والإمام ابن خزيمة، والإمام ابن قتيبة، ومن أئمة التفسير: كالإمام الطبري، والإمام ابن كثير، والإمام البغوي، وغيرهم من أئمة التفسير. وألفوا في هذا مؤلفات يسمونها بكتب السنة، مثل كتاب السنة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة للخلال، والشريعة للآجري، وغير ذلك. ومن جملة هؤلاء الأئمة الذين كتبوا في عقيدة السلف: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي (2) وكتبت عليها شروح، حوالي سبعة شروح، ولكن لا تخلو من أخطاء؛ لأن الذين ألفوها كانوا على منهج المتأخرين، فلم تخل شروحهم من ملاحظات ومخالفة لما في عقيدة الطحاوي، إلا شرحًا واحدًا فيما نعلم، وهو شرح العز بن أبي العز رحمه الله (3) وكذلك صاحباه أبو يوسف، ومحمد الشيباني، وأئمة المذهب الحنفي. ذكر عقيدتهم، وأنها موافقة لمذهب أهل السنة والجماعة، وفي هذا ردٌ على المنتسبين إلى الحنفية في الوقت الحاضر أو في العصور المتأخرة، ينتسبون إلى الحنفية ويخالفون أبا حنيفة في العقيدة، فهم يمشون على مذهبه في الفقه فقط، ويخالفونه في العقيدة، فيأخذون عقيدة أهل الكلام والمنطق، وكذلك حدث في الشافعية المتأخرين منهم يخالفون الإمام الشافعي في العقيدة، وإنما ينتسبون إليه في الفقه، كذلك كثير من المالكية المتأخرين ليسوا على عقيدة الإمام مالك، لكنهم يأخذون من مذهب مالك في الفقه فقط، أما العقيدة فهم أصحاب طرق وأصحاب مذاهب متأخرة. ففي هذه العقدية ردٌ على هؤلاء وأمثالهم ممن ينتسبون إلى الأئمة، ويتمذهبون بمذاهب الأئمة الأربعة، ويخالفونهم في العقيدة، كالأشاعرة: ينتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في مذهبه الأول، ويتركون ما تقرر واستقر عليه أخيرًا من مذهب أهل السنة والجماعة، فهذا انتساب غير صحيح؛ لأنهم لو كانوا على مذهب الأئمة لكانوا على عقيدتهم. نقول، أي ؛ نعتقد في توحيد الله عز وجل. والتوحيد لغة: مصدر وحّد: إذا جعل الشيء واحدًا. وشرعًا: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وترك عبادة ما سواه. وأقسامه ثلاثة بالاستقراء من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تقرر عليه مذهب أهل السنة والجماعة، فمن زاد قسمًا رابعًا أو خامسًا فهو زيادة من عنده؛ لأن الأئمة قسّموا التوحيد إلى أقسام ثلاثة من الكتاب والسنة. فكل آيات القرآن والأحاديث في العقيدة لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة. الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله تعالى وإفراده بأفعاله: كالخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، وتدبير الكون، فليس هناك رب سواه سبحانه وتعالى، رب العالمين . القسم الثاني: توحيد الألوهية أو توحيد العبادة؛ لأن الألوهية معناها عبادة الله عز وجل بمحبته وخوفه ورجائه، وطاعة أمره، وترك ما نهى عنه فهو إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي شرعها لهم. القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وتنـزيهه عما نزّه عنه نفسه، ونزّهه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من العيوب والنقائص. فكل الآيات التي تتحدث عن أفعال الله فإنها في توحيد الربوبية، وكل الآيات التي تتحدث عن العبادة والأمر بها والدعوة إليها فإنها في توحيد الألوهية. وكل الآيات التي تتحدث عن الأسماء والصفات لله عز وجل فإنها في توحيد الأسماء والصفات. وهذه الأقسام الثلاثة المطلوب منها هو توحيد الألوهية؛ لأنه هو الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وقام من أجله الجهاد في سبيل الله، حتى يُعبد الله وحده، وتُترك عبادة ما سواه. وأما توحيد الربوبية ومنه توحيد الأسماء والصفات فلم ينكره أحد من الخلق، وذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة، ذكر أن الكفار مُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، والمدبر، فهم لا يخالفون فيه. وهذا النوع إذا اقتصر عليه الإنسان لا يدخله ذلك في الإسلام؛ لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قاتل الناس وهم يقرون بتوحيد الربوبية، واستحل دمائهم وأموالهم. ولو كان توحيد الربوبية كافيًا لما قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ما كان هناك حاجة إلى بعثة الرسل، فدل على أن المقصود والمطلوب هو توحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فإنه دليل عليه، وآية له، ولذلك إذا أمر الله بعبادته ذكر خلقه للسموات والأرض، وقيامه سبحانه بشؤون خلقه، برهانًا على توحيد الألوهية، وإلزامًا للكفار والمشركين، الذين يعترفون بالربوبية وينكرون الألوهية، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : فهم لا يريدون توحيد الألوهية، بل يريدون أن تكون الآلهة متعددة، وكلٌ يعبد ما يريد. فيجب أن يُعلم هذا، فإن كل أصحاب الفرق الضالة الحديثة والقديمة، يركزون على توحيد الربوبية، فإنه إذا أقر العبد عندهم بأن الله هو الخالق الرازق، قالوا: هذا مسلم، وكتبوا بذلك عقائدهم، فكل عقائد المتكلمين لا تخرج عن تحقيق توحيد الربوبية والأدلة عليه . وهذا لا يكفي، بل لابد من الألوهية، قال تعالى : كل الآيات تأمر بتوحيد الألوهية وتدعو إليه، وجميع الرسل دعوا إلى توحيد الألوهية وأمروا به أممهم، ونهوهم عن الشرك، هذا هو المطلوب والغاية والقصد من التوحيد، وأما توحيد الأسماء والصفات فأنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، على تفاوت بينهم في ذلك. وقوله نقول: -أي يقول معشر أهل السنة والجماعة- في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله : إن الله واحد لا شريك له. العقيدة والتوحيد بمعنى واحد. سواء سُميت عقيدة أو توحيدًا أو إيمانًا، فالمعنى واحد وإن اختلفت الأسماء. وقوله: [بتوفيق الله] هذا تسليم لله عز وجل، وتضرّع إلى الله، وتبرؤ من الحول والقوة، فالإنسان لا يزكي نفسه، وإنما يقول: بتوفيق الله، بمشيئة الله، بحول الله، هذا أدب العلماء رحمهم الله. [إن الله واحد لا شريك له] هذا هو التوحيد؛ واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، وواحد في أسماءه وصفاته. مأخوذ من قوله تعالى : وقوله تعالى: لا يشبهه أحد من خلقه، وهذا هو الواجب أن نثبت ما أثبته الله لنفسه ونعتقده ولا نشبهه بأحد من خلقه، ولا نمثّله بخلقه سبحانه وتعالى، وهذا فيه رد على المشبهة الذين يعتقدون أن الله مثل خلقه، ولا يُفرقون بين الخالق والمخلوق، وهو مذهب باطل. وفي مقابله مذهب المعطلة؛ الذين غلوا في التنـزيه حتى نفوا عن الله ما أثبته من الأسماء والصفات، فرارًا من التشبيه بزعمهم. فكلا الطائفتين غلت، المعطلة غلوا في التنـزيه ونفي المماثلة، والمشبهة غلوا في الإثبات، وأهل السنة والجماعة توسّطوا؛ فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تعطيل على حد قوله تعالى ولهذا يُقال: المعطل يعبد عدمًا، والمشبه يعبد صنمًا، والموحد يعبد إلهًا واحدًا فردًا صمدًا. هذا إثبات لكمال قدرته: قال تعالى : وقال تعالى: وقال تعالى : والقدير معناه: المبالغ في القدرة، فقدرته سبحانه وتعالى لا يعجزها شيء، إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: كن فيكون. -فهذا فيه إثبات قدرة الله عز وجل، وإثبات شمولها، وعمومها لكل شيء. -أما العبارة التي يقولها بعض المؤلفين : إنه على ما يشاء قدير. فهذه غلط؛ لأن الله لم يقيد قدرته بالمشيئة، بل قال: على كل شيء قدير، فقل ما قاله الله سبحانه وتعالى. إنما هذه وردت في قوله تعالى: هذا هو توحيد الألوهية. لا إله، أي : لا معبود بحق غيره . أما إذا قلت : لا معبود إلا هو؛ أو لا معبود سواه، فهذا باطل؛ لأن المعبودات كثيرة من دون الله عز وجل، فإذا قلت: لا معبود إلا الله، فقد جعلت كل المعبودات هي الله، وهذا مذهب أهل وحدة الوجود، فإذا كان قائل ذلك يعتقد هذا فهو من أصحاب أهل وحدة الوجود، وأما إن كان لا يعتقد هذا، إنما يقوله تقليدًا أو سمعه من أحد، فهذا غلط، ويجب عليه تصحيح ذلك. وبعض الناس يستفتح بهذا في الصلاة فيقول: ولا معبود غيرك، والله معبود بحق، وما سواه فإنه معبود بالباطل، قال تعالى: كما دل عليه قوله تعالى: لكن كلمة "قديم" لا تُطلق على الله عز وجل إلا من باب الخبر، أما من جهة التسمية فليس من أسمائه: القديم، وإنما من أسمائه: الأول. والأول ليس مثل القديم؛ لأن القديم قد يكون قبله شيء، أما الأول فليس قبله شيء، قال عليه الصلاة والسلام: لكن المؤلف رحمه الله احتاط فقال: "قديم بلا ابتداء"، أما لو قال: "قديم" وسكت، فهذا ليس بصحيح في المعنى. الفناء والبيد بمعنى واحد، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالحياة الباقية الدائمة، قال تعالى: فالله لا يأتي عليه الفناء، قال سبحانه وتعالى: فله البقاء سبحانه وتعالى، والخلق يموتون ثم يبعثون، وكانوا في الأول عدمًا ثم خلقهم الله، ثم يموتون ثم يبعثهم الله عز وجل. فالله سبحانه وتعالى ليس له بداية وليس له نهاية. هذا فيه إثبات القدر وإثبات الإرادة، فلا يكون في ملكه ولا يحصل في خلقه من الحوادث والكائنات إلا ما أراده سبحانه وتعالى بالإرادة الكونية: فالله سبحانه وتعالى لا يُحاط به، فالله أعظم من كل شيء سبحانه وتعالى هذه مثل العبارة التي مضت، ولا شيء مثله، والأنام معناه: الخلق، فالله سبحانه وتعالى منـزه عن مشابهة الخلق: حياته كاملة لا يعتريها نقص ولا نوم والنوم والنعاس والموت نقص في الحياة، وهذه من صفة المخلوق، وحياة المخلوق ناقصة فهو ينام ويموت. فالنوم كمال في حق المخلوق، نقص في حق الخالق؛ لأن المخلوق الذي لا ينام معتل الصحة، فهذا يدل على الفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، والحي والقيوم: هاتان الصفتان مأخوذتان من قوله تعالى: القيوم هو: القائم بنفسه والمقيم لغيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى شيء، وغني عن كل شيء، المقيم لغيره، كل شيء فقير إليه يحتاج إلى إقامته له سبحانه وتعالى، فلولا إقامة الله للسموات والأرض والمخلوقات لتدمرت وفنيت، ولكن الله يقيمها ويحفظها ويمدها بما يصلحها. فجميع الخلق في حاجة إليه هو الذي خلق الخلق وهو ليس بحاجة إليهم، إنما خلقهم لعبادته أي : يميت الأحياء إذا كملت آجالهم ، لا لأنه خائف منهم ولكن ذلك لحكمته سبحانه وتعالى؛ لأن الحياة في الدنيا لها نهاية، وأما الآخرة فليس للحياة فيها نهاية، فإماتتهم ليس خوفًا منهم أو ليستريح منهم، ولو كانوا يكفرون به فإنه لا يتضرر بكفرهم، وإنما يضرون أنفسهم، لكنه هو يفرح بتوبتهم ؛ لأنه يحب –ويريد- لهم الخير، فهو يفرح بتوبتهم وهو ليس في حاجة إليهم، إنما ذلك لطفه وإحسانه. هذا من عجائب قدرته، أنه يميت الخلق ويفنيهم حتى يتلاشوا ويصيروا ترابًا ورفاتًا. حتى يقول الجاهل: لا يمكن أن يعودوا ولكن الله عز وجل يبعثهم من جديد ويعيد خلقهم من جديد، وليس عليه في ذلك مشقة، كما قال سبحانه وتعالى: فالمشركون أنكروا البعث استبعادًا منهم كما ذكر الله ذلك عنهم: أول مرة، ليس لها وجود أصلًا، فأوجدها من العدم سبحانه وتعالى، فالذي خلقها من العدم: أليس بقادر على إعادتها من باب أولى؟ هذا في نظر العقول، وإلا فإن الله سبحانه لا يُقاس بخلقه، إنما ذلك لضرب المثل: فهذا ردٌ على هذا الجاحد، قال تعالى: فهو يجمع هذه العظام المتفرقة، واللحوم الممزقة، والتراب الذي تحلل، وهذه الشعور المتبعثرة يعيدها كما كانت، فالأولى نفخة الصعق والموت، والثانية نفخة البعث. فالله قادر على كل شيء، وهذا رد على الكفار الذين يُعجزون الله عن إحياء الموتى وإعادتهم كما كانوا. قال تعالى: هذه قدرة الله وإرادته ومشيئته، لا يعجزه شيء، لكن بعض المخلوقين يقيس الله بخلقه فيستبعد البعث؛ لأنه في نظره مستحيل، ولا ينظر إلى قدرة الله، ولم يقدر الله حق قدره، وهذا من الجهل بالله عز وجل. تقدم قول المصنف: "قديم بلا ابتداء"، فهو سبحانه وتعالى ليس قبله شيء، ومعنى ذلك: أنه متصف بصفات الكمال، فصفاته تكون أزلًا وأبدًا، فكما أنه أول بلا بداية، فكذلك صفاته، فإنها تكون تابعة له سبحانه، فهي أولية بأولية الله سبحانه وتعالى، فلم يكن أولًا بلا صفات ثم حدثت له الصفات بعد ذلك كما يقوله أهل الضلال، الذين يقولون: لم تكن له صفات في الأزل ثم كانت له صفات؛ لئلا يلزم على ذلك تعدد الآلهة –كما يزعمون- أو تعدد القدماء، وتكون الأسماء والصفات شريكة لله في أوليته. فنقول: يا سبحان الله! هذا يلزم عليه أن يكون الله ناقصًا –تعالى الله- في فترة، ثم حدثت له الصفات وكمل بها، تعالى عما يقولون، ولا يلزم من قدم الصفات قدم الأرباب؛ لأن الصفات ليست شيئًا غير الموصوف في الخارج، إنما هي معان قائمة بالموصوف، ليست شيئًا مستقلًا عن الموصوف، فإذا قلت مثلًا: "فلان سميع بصير، عالم فقيه، لغوي نحوي" فهل معنى هذا أن الإنسان صار عددًا من الأشخاص، فلا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف، كما يقوله أصحاب الضلال. فالله سبحانه وتعالى ليس لصفاته بداية كما أنه ليس لذاته بداية، فيوصف بأنه الخالق دائمًا وأبدًا. وأما أفعاله سبحانه، فهي قديمة النوع حادثة الآحاد. فالله سبحانه وتعالى متكلم قبل أن يصدر منه الكلام، وخالق قبل أن يصدر منه الخلق. وأما أنه يتكلم ويخلق، فهذه أفعال متجددة وهكذا. أي : خلق الخلق. ولا نقول: لم يصر خالقًا إلا بعد أن خلقهم، بل هو يسمى خالقًا من الأزل، لا بداية لذلك، أما خلقه إنما هو متجدد. كما أنه موصوف بصفاته أزليًا، يعني : لا بداية لذلك، كذلك صفاته تلازمه –سبحانه- في المستقبل، فهو بصفاته أبدي لا نهاية له (أنت الآخر فلا بعدك شيء) باسمك وصفاتك، ولا يقال: إن هذه الصفات تنقطع عنه في المستقبل، بل هي ملازمة له سبحانه وتعالى. هذا توضيح وتكرار لما سبق. من أسماء الله عز وجل : الباري، يعني : الخالق، برى الخلق، يعني: خلقهم، فهو الباري، وهذا الاسم ملازم لذاته ليس له بداية. كذلك هو رب قبل أن توجد المربوبات، والرب معناه: المالك والمتصرف والمصلح والسيد، وهذه الصفات لازمة لذاته، يوصف بالربوبية بلا بداية ولا نهاية، قبل وجود المربوبات وبعد فناء المربوبات. كما أنه –سبحانه- يوصف بكونه محيي الموتى في الأزل، وبأنه يحيي ويميت، ولا يكون هذا الوصف معدومًا حتى يكون أحيا الموتى، وإنما هذا له من القديم والأزل، وأما إحياء الموتى فهذا متجدد، أحيا ويحيي سبحانه إذا شاء. هذا وصف أزلي، لا يقال بأنه ما استفاد القدرة إلا بعد أن خلق وأوجد المخلوقات، بل القدرة صفة أزلية، وإنما كونه أوجد المخلوقات فهذا أثر ناتج من كونه على كل شيء قدير. والله هو الذي وصف نفسه بأنه على كل شيء قدير من الموجودات ومن المعدومات، لم يقيد قدرته بشيء معين، لا يعجزه شيء، ولا يجوز التقييد بأنه قدير على كذا، ولا يقال: إنه على ما يشاء قدير، إنما هذا خاص بجمع الله سبحانه وتعالى لأهل السموات والأرض : لا شيء يمكن أن يستغني عن الله لا من الملائكة ولا السماوات والأرض ولا الجن ولا الإنس، ولا الجامدات من الجبال ولا البحار، كل شيء فقير إلى الله: فكل شيء إليه فقير، لا الأولياء ولا السماوات، ومن يقول: إن الأولياء لهم قدرة غير البشر وإنهم يتصرفون في الكون، وإنهم ينفعون ويضرون من دون الله، فذلك من قول الكفرة والمشركين، فليس للأولياء والرسل والملائكة غنى عن الله ولا تصرف من دونه . وهذا مما يبطل عبادة غير الله من الأصنام ونحوها، كيف تعبد أشياء فقيرة وتنسى الذي بيده ملكوت كل شيء؟ ولهذا لما قال بعض علماء القبورية لعامي من أهل التوحيد: أنتم تقولون : إن الأولياء لا ينفعون ولا يضرون، قال: نقول: إنهم لا ينفعون ولا يضرون، قال: أليس الله تعالى يقول: فهو يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ويعطي ويمنع، ويحيي الموتى بعد فنائهم، وذلك يسير عليه سبحانه وتعالى، لا يكلفه شيئًا ولا يشق عليه، خلاف المخلوق، فإنه يتكلف بفعل الأشياء، أو يعجز عنها، أما الله فليس شيء عليه صعبًا، الله سبحانه غني عن كل شيء، فالله ليس بحاجة إلى الخلق؛ لأنه هو الغني، فهو الذي يعطي الخلق سبحانه . هذا نفي للتشبيه عن الله سبحانه، والكاف لتأكيد النفي، مثل: وليس يشبهه شيء من الأشياء، لا الملائكة ولا الأنبياء والرسل ولا الأولياء ولا أي مخلوق فالآية في أولها رد على المشبهة، وفي آخرها رد على المعطلة، ودلت على أنه لا يلزم من إثبات الأسماء والصفات التشبيه بالمخلوقات، فسمع وبصر المخلوقات لا يشبه سمع ولا بصر الله عز وجل. قال سبحانه: قدر الله جل وعلا المقادير، ولم يوجد هذه الأشياء بدون تقدير المخلوقات لها آجال ولها نهاية، قال سبحانه كل شيء له عمر محدود، حدده الله –سبحانه- إما قصير وإما طويل، قال سبحانه، بل هو عالم بالأشياء قبل أن توجد، لا أنه لا يعلمها إلا بعد أن وُجدت. علم ما يعمل العباد قبل خلقهم، أن هذا من أهل الطاعة وهذا من أهل المعصية . كما في قوله تعالى: لا شك أن كل شيء بتقديره لا يخرج عن تقدير الله من الخير والشر، والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان، والمرض والصحة، والغنى والفقر، والعلم والجهل، كل شيء يجري بتقديره، وليس في ملكه شيء لم يقدره ولا يريده. الله سبحانه وتعالى له مشيئة، والعباد لهم مشيئة، ولكن مشيئة العباد مرتبة على مشيئة الله، وليست مستقلة، ولهذا قال سبحانه: وأما أهل السنة والجماعة: فأثبتوا المشيئتين، وجعلوا مشيئة العبد مربوطة بمشيئة الله، أخذًا من الآيتين السابقتين فقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ} فيه إثبات مشيئة العباد، وقوله: الله سبحانه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهذا بقضاء الله وقدره، ولكنه يهدي من يعلم أنه يصلح للهداية، ويهدي من يحرص على طلب الهداية ويُقبل عليها، فإن الله ييسره لليسرى، ويضل من يشاء بسبب إعراضه عن طلب الهداية والخير، فيضله الله عقوبة له على إعراضه وعدم رغبته في الخير، يوضح ذلك قوله تعالى: فقدر الله الهداية فضلًا من الله عز وجل، وتكرم على الشخص الذي يريد الخير ويريد الهداية، فييسره الله للخير ولفعله، وهذا لمصلحته، لا مصلحة لله عز وجل، وأما إضلال الضالين فعدل منه سبحانه وتعالى، جزاءً لهم على إعراضهم وعدم إقبالهم على الخير وعلى طاعة الله عز وجل، لم يظلمهم شيئًا، ولهذا نجد في الآيات فالله سبحانه وتعالى لا يُضيع أجر من عمل صالحًا، ولا يجازي أحدًا بغير فعله، وبغير كسبه وكل العباد لا يخرجون عن التقلب في مشيئة الله بين فضلة على أهل الطاعة وأهل الخير، وعدله مع أهل الكفر والشرك، وهذا هو اللائق بحكمته وعظمته سبحانه، فلا يجمع بين المتضادات والمختلفات، بل ينـزل الأشياء في منازلها، ولهذا من أسمائه: الحكيم، ومن صفاته: الحكمة، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، فيضع الفضل في أهل الطاعة، ويضع العذاب في أهل الكفر والمعاصي، هذا فضله سبحانه وعدله. (متعال) أي : مرتفع بذاته وقدره وقهره عن الأضداد والأنداد، فالأنداد: هم الأمثال والشبهاء والنظراء، فالله سبحانه وتعالى ليس له نظير، وليس له مثيل ولا شبيه، فلا أحد يشارك الله ولا يشابهه ولا يساويه جل وعلا، وهذا من علو قدره وقهره وهو العلي بذاته فوق مخلوقاته. أما الأضداد: فهم المعارضون له، فالله ليس له معارض، ولا يضاده أحد من خلقه، فإنه إذا أراد أمرًا فلا يمكن لأحد أن يعترض ويمنع أمره سبحانه وتعالى، وإذا أراد إعطاء فلا أحد يمنع، وإذا أراد منعًا لشيء فلا أحد يعطيه قال تعالى: فلا ند لله ولا ضد له فيما يأمر به وينهى عنه، خلاف المخلوقين فيوجد من ينازعهم ويقف ضد تنفيذ أوامرهم، فالمخلوقات كلها لها مشارك، فالخلق يتشابهون في العلم والاسم وفي كل شيء، في الأجساد والصفات، ويشتركون في الأفعال والأملاك والله سبحانه لا يشبهه أحد ولا يشاركه أحد.
فالله (ولا غالب لأمره): وإذا أمر بالشيء لا أحد يغلب أوامره الكونية، أما أوامره الشرعية فقد تُعطل وقد تُخالف، وهذه للابتلاء والامتحان. ليترتب على ذلك الثواب أو العقاب. كل ما سبق ذكره من أول العقيدة إلى آخرها، ندين لله به، وليس مجرد كلام بألسنتنا، بل هو من قلوبنا. لما بين الشيخ –رحمه الله- في أول كلامه ما يجب من معرفة الله سبحانه، واعتقاد أنه الرب المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي هو متصف بها أزلًا وأبدًا، لما بين هذا ووضحه، انتقل إلى ما يجب اعتقاده في الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: "وأن محمدًا عبده المصطفى.." هذا عطف على أول الكلام: "نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له…." إلى آخره، ثم قال: "وأن محمدًا…." إلى آخره، فلابد من اعتقاد هذا، كما نشهد لله بالألوهية، كذلك نشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولذلك فالشهادتان دائمًا متلازمتان. "وأن محمدًا" هذا اسمه عليه الصلاة والسلام المشهور به، وقد جاء في القرآن: وله أسماء جاءت في السنة، ذكرها ابن القيم في كتابه: "جلاء الأفهام". والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم من واجبات الدين ومن أصول الإسلام، وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "ثلاثة الأصول" : "الأصل الأول: معرفة الله، والثاني: معرفة نبيه، والثالث: معرفة دين الإسلام بالأدلة"، كما يجب عليك معرفة الله، كذلك يجب عليك معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. هذه أصول ثلاثة، وهي التي يسأل عنها الميت إذا وضع في قبره. وقوله: (عبده) فهو عبدالله عز وجل، وليس له من الألوهية شيء، ولا من الربوبية شيء، وإنما هو عبد الله ورسوله، مؤتمر بأوامره، منتهٍ عن نواهيه، مبلغ عن الله عز وجل، وهذا فيه رد على الغلو فيه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هناك من يغلون في الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجعلون له شيئًا من الربوبية أو الألوهية، ويدعونه مع الله، وهذا غلو –والعياذ بالله- كما غلت النصارى في المسيح عيسى ابن مريم، وقالوا إنه ابن الله أو الله أو ثالث ثلاثة. ففي قوله: (عبده المصطفى) فيه ردٌ للغلو، فهو عبد، وكل من في الأرض والسموات عبيد لله عز وجل، قال سبحانه وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء، وسماه الله عبدًا في قوله: قال عليه الصلاة والسلام: ومعنى المصطفى : المختار، من الاصطفاء، وهو الاختيار، قال تعالى: فالمصطفى هو المختار؛ لأن الله سبحانه اختار محمدًا عليه الصلاة والسلام للرسالة من بين قومه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار إلا من يعلم أنه يستحق الاختيار، وأنه يقوم بالمهمة؛ لأن هذه المهمة صعبة وعظيمة، فلا يختار الله إلا من هو لها أهل، قال سبحانه : والنبي : من أوحى إليه الله بشرع ولم يُؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهذا أشهر ما قيل في الفرق بين النبي والرسول، ومعنى: أمر بتبليغه، أي : أمر بإلزام الناس وأن يقاتلهم على ما جاء به. وكذلك النبي، يُوحى إليه ويدعو إلى الله عز وجل، ولكن يتبع من قبله من الأنبياء ويمشي على طريق من قبله، ولا ينفرد بشريعة خاصة، مثل أنبياء بني إسرائيل، جاءوا بالتوراة ودعوا إلى التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام. و (المرتضى) بمعنى المجتبى والمصطفى، فالمرتضى بمعنى: أن الله ارتضاه. هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام. خاتم الأنبياء، ومعنى (خاتم) الذي لا يأتي بعده نبي، وختام الشيء هو: الذي يُجعل عليه حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فالله ختم الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال جل في علاه: فدين الإسلام كامل لا يحتاج بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى رسول، والعلماء ورثة الأنبياء، فمن اعتقد أنه يأتي بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي فهو كافر بالله خارج من الملة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي كذبة يدعون النبوة من بعده، قال عليه الصلاة والسلام: أخرجه البخاري رقم (3609) ومسلم رقم (157/84) من كتاب الفتن]. فمن ادعى النبوة أو ادعيت له النبوة ومن اتبعهم، فكلهم كفرة، وقد قاتلهم المسلمون وكفّروهم، وآخر من ادعى النبوة في الوقت الحاضر: القادياني الباكستاني الذي ادّعى النبوة له أتباعه القاديانية، ويُسمون بالأحمدية نسبة إلى اسمه؛ لأن اسمه أحمد القادياني، وقد كفره العلماء وطردوه من البلاد الإسلامية، وكفَّروا أتباعه؛ لأن هذا تكذيب لله ولرسوله، وتكفيرهم بإجماع المسلمين، لم يخالف في هذا أحد. فلابد للمسلم أن يعتقد أنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الأتقياء؛ يعني القدوة الوحيد للأتقياء الذين يتقون الله عز وجل: أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فيقتدى به إن كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما من خالف الرسول عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الاقتداء به: "وسيد المرسلين" هو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم، كما قال عليه الصلاة والسلام: أخرجه البخاري رقم (3340،4712) ومسلم رقم (194،2278)] أخبر الأمة بذلك من باب الشكر لله عز وجل، ولتشكر الأمة ربها عز وجل على هذه النعمة: أن جعل رسولها سيد الرسل. و"سيد" معناه: المقدم والإمام، فهو أفضل الرسل عليه الصلاة والسلام، وإمامهم ومقدمهم . و"حبيب رب العالمين" هذه العبارة فيها مؤاخذة؛ لأنه لا يكفي قوله: حبيب، بل هو خليل رب العالمين؛ والخلة أفضل من مطلق المحبة؛ فالمحبة درجات، أعلاها الخلة، وهي خالص المحبة، ولم تحصل هذه المرتبة إلا لاثنين من الخلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا سبق في معنى أنه خاتم النبيين، فكل دعوى للنبوة بعده فباطله وكفر؛ لأنه لا يأتي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، وعيسى عليه الصلاة والسلام لما ينـزل آخر الزمان فإنه لا يأتي على أنه نبي ورسول أو يأتي بشريعة جديدة، إنما يأتي على أنه مجدد لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم بالشريعة الإسلامية. كذلك، هذا ما يجب اعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكفي أن نعتقد أنه رسول الله فقط، بل أنه رسول إلى الناس عامة، بل إلى الجن والإنس، قال سبحانه: وقال عليه الصلاة والسلام: فتجب في حقه هذه الاعتقادات: أولًا: أنه عبد الله ورسوله. ثانيًا: أنه خاتم النبيين لا نبي بعده . ثالثًا: أن رسالته عامة للإنس والجن. ودليل عمومها للإنس: كما سبق من الآيات ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم . وأما عمومها للجن: فلقوله تعالى : وفي قوله تعالى : بعد أن تؤمن بالله عز وجل، وتؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، تؤمن أن القرآن كلام الله؛ لأن هذا هو الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه القرآن، وهذا القرآن ليس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا من كلام جبريل، إنما هو كلام الله عز وجل، تكلم الله به، وتلقاه جبريل من الله، وتلقاه النبي عليه الصلاة والسلام من جبريل عليه السلام، وتلقته الأمة من النبي صلى الله عليه وسلم . فهو كلام الله، منه بدأ سبحانه، لم يأخذه جبريل من اللوح المحفوظ كما يقوله أهل الضلال، ولم يكن من كلام جبريل ولا محمد، إنما هو من كلام رب العالمين. وأما جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام فهما مبلغان عن الله عز وجل، فالكلام إنما يقال ويضاف لمن قاله مبتدأ، لا من قاله مبلغًا ومؤديًا. فمن قال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، أو : إن الله خلقه في شيء وأخذه جبريل من ذلك الشيء، فهو كافر بالله عز وجل كفرًا مخرجًا من الملة، كما تقوله الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم، فهو كلام الله، حروفه ومعانيه، تكلم الله به كيف شاء، فنحن نصف الله بأنه يتكلم، والكلام من صفاته الفعلية، والكيفية التي تكلم بها نقول: الله أعلم بها، هذه كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نعلم كيفيتها، فالمعنى معروف، وأما الكيفية فهي مجهولة لنا.
أي : أن القرآن نزل من الله، تكلم الله به وأنزله، لم ينـزل من غيره ولم يبدأ من غيره، ليس كما يقولون: إنه بدأ من جبريل، أو من اللوح، أو من الهواء، إنما بدايته من الله، وسمعه جبريل وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا، والنبي عليه الصلاة والسلام بلغه للناس، ولو كان هذا القرآن من كلام البشر لاستطاع أحد من الناس أن يأتي بسورة من مثله، فلما عجزوا عن ذلك دل على أنه من كلام الله عز وجل، قال تعالى : فالمؤمنون بالله ورسوله يصدقون بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ عن الله. وأما قول الله عز وجل: ليس بالمجاز كما يقوله الجهمية والمعتزلة، هم يقولون: كلام الله، ولكن نسبته إلى الله مجاز؛ لأن الله خالقه، فإضافته إلى الله إضافة مخلوق إلى خالقه. فنقول: كذبتم؛ لأن الإضافة إلى الله على نوعين: إضافة معانٍ، وإضافة أعيان: النوع الأول: إضافة المعاني إلى الله مثل الكلام، فإضافة المعاني إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، فالكلام والسمع والبصر والقدرة والإرادة إضافة صفة إلى موصوف؛ لأن هذه معانٍ لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بالموصوف بها. النوع الثاني: إضافة أعيان، مثل: بيت الله، ناقة الله، عبد الله. هذه إضافة مخلوق إلى خالقه، وفائدة الإضافة هنا التشريف والتكريم. أي كلام الله ليس بمخلوق. ردًا على الجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله عندهم لا يتكلم، على منهجهم في نفي الصفات كلها، فرارًا –بزعمهم- من التشبيه؛ لأنهم لم يفرقوا بين صفات الخالق وصفات المخلوق ففروا من التشبيه الموهوم ووقعوا في التعطيل المذموم وهو شر منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار. ولو أنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه، وعرفوا أن هناك فرقًا بين صفات الخالق وصفات المخلوق، لأصابوا عين الحق واستراحوا وأراحوا الناس، ولكنهم في ضلال. فمن سمع كلام الله وزعم أنه كلام البشر فقد كفر؛ لأنه جحد كلام الله عز وجل، فإذا لم يكن لله كلام ينـزله على عباده فبم تقوم الحجة عليهم؟ فقصدهم بقولهم هذا هدم الشرائع، فإذا كان ليس في الكون كلام لله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا القرآن، فمعنى ذلك أنه ما قامت على الناس الحجة من الله، وهذا من أعظم الكفر وأعظم الضلال. وقد ذم الله عز وجل من قال هذه المقالة، فجعل القرآن كلام البشر، كما قال الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو من أكابر كفار مكة ومن عظمائهم وكانوا يسمونه: زهرة مكة؛ لشرفه فيهم، فلما سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم أعجبه وعلم أنه ليس من كلام البشر، ومدح القرآن فقال: ليس بالشعر وليس بالسحر، أنا أعرف ضروب الشعر، وأعرف أنواع السحر، وأعرف الكهانة، وأعرف وأعرف…. فليس القرآن من هذه الأمور. فعند ذلك توجه إليه قومه الكفار بالتوبيخ والتعنيف؛ لأن معنى هذا أنه اعترف للرسول عليه الصلاة والسلام بالرسالة، فلما رأى ذلك انحرف –والعياذ بالله- بالكلام فقال: فمن قال: إن القرآن ليس كلام الله وإنه كلام البشر، أو الملك، فهو مثل الوليد بن المغيرة، فما الفرق بين هذا وهذا إلا أنه ادعى الإسلام والوليد لم يدع الإسلام؟ فدعوى الإسلام لا تكفي، فإنه إن كفر بالقرآن لم ينفعه ادعاء الإسلام؛ لأن هذا ردة –والعياذ بالله- . فتبين بهذا أنه لابد من الاعتراف بأن القرآن كلام الله حقيقة. لو كان الكلام من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فلا لوم على الوليد ابن المغيرة إن قال إن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتوعده الله بهذا الوعيد الشديد؟ فدل على أنه قال مقاله عظيمة وفظيعة –حيث نسب القرآن لغير الله، وكل من سار على هذا المذهب وهذا المنهج فإنه مثل الوليد بن المغيرة، يكون في النار خالدًا فيها. يعني: من شبه الله بمعنىً من معاني البشر فقد كفر لأنه تنقص الله عز وجل. لأن هناك فرقًا واضحًا بين صفات الخالق وصفات المخلوق، وإن اشتركت في الاسم والمعنى، ولكن تختلف في الحقيقة وتختلف في الواقع والخارج، فلا تشابه بين كلام الله وكلام البشر، ولا تشابه بين سمع الله وسمع البشر، ولا تشابه بين بصر الله وبصر البشر، ولا علم الله وعلم البشر، ولا مشيئة وإرادة الله ومشيئة وإرادة البشر. ففرق بين صفات الله وصفات المخلوق، فمن لم يفرق بينهما صار كافرًا. من تدبر الآيات القرآنية التي أنزلها الله في الوليد بن المغيرة، من تدبرها عرف بطلان أقوال هذه الفرق الضالة في كلام الله عز وجل. وصفاته من الكلام وغيره ليست كصفات البشر للفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق. الرؤية: أي : رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، فإن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة، يرونه عيانًا بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث الصحيحة المتواترة عنه عليه الصلاة والسلام(15) فالمؤمنون يرون ربهم سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: وإذا عُدي النظر بنفسه وبدون واسطة فمعناه التوقف والانتظار: وإذا عُدي النظر بفي فمعناه التفكر والاعتبار، كما قال تعالى: الحاصل: أن النظر هنا عُدي بـ(إلى) ومعناه: الرؤية والمعاينة. وقال سبحانه وتعالى: وقال تعالى: وقال تعالى عن الكفار: والنظر إلى وجه الله عز وجل أعظم نعيم في الجنة. هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذه بعض أدلتهم من القرآن وأما أدلتهم من السنة فكثيرة جدًا بلغت حد التواتر، كما قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح]، وساق الأحاديث الواردة في الرؤية وقد بلغت حد التواتر. منها: قوله عليه الصلاة والسلام: ولم ينكر الرؤية إلا أهل البدع كالجهمية والمعتزلة الذين ينفون الرؤية، يقولون: يلزم من إثبات الرؤية أن يكون الله في جهة، والله عندهم ليس في جهة، وهو عندهم لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا يمنه ولا يسرة، ليس في جهة، وهذا معناه أنه معدوم، تعالى الله عما يقولون ، فنفوا الرؤية من أجل هذا الرأي الباطل. وأما الأشاعرة: لما لم يمكنهم إنكار الأدلة من الكتاب والسنة أثبوا الرؤية وقالوا: يُرى ولكن ليس في جهة، وهذا من التناقض العجيب! ليس هناك شيء يُرى وهو ليس في جهة، ولذلك رد عليهم المعتزلة؛ لأن هذا من المستحيل. وأهل السنة يقولون: يُرى سبحانه وتعالى وهو في جهة العلو من فوقهم، فالجهة إن أريد بها الجهة المخلوقة فالله ليس في جهة؛ لأنه ليس بحال في خلقه سبحانه وتعالى. وإن أريد بها العلو فوق المخلوقات فهذا ثابت لله عز وجل، فالله في العلو فوق السماوات، فالجهة لم يرد إثباتها أو نفيها في كتاب الله، ولكن يقال فيها على التفصيل السابق. ومعنى: "بغير إحاطة ولا كيفية" أنهم لا يحيطون بالله عز وجل، ويرونه سبحانه بغير إحاطة، والله عظيم لا يمكن الإحاطة به، قال سبحانه: واستدلوا أيضًا فقالوا: موسى عليه السلام قال : نقول لهم: هذا في الدنيا، لأن موسى سأل ذلك في الدنيا، ولا أحد يرى الله في الدنيا لا الأنبياء ولا غيرهم، وأما في الآخرة فيرى المؤمنون ربهم، وحال الدنيا ليست كحال الآخرة، فالناس في الدنيا ضعاف في أجسامهم وفي مداركهم، لا تستطيع أن ترى الله عز وجل، وأما في الآخرة فإن الله يعطيهم قوة يستطيعون بها أن يروا ربهم –جل وعلا- إكرامًا لهم. ولهذا لما سأل موسى ربه في هذه الآية: وسؤال موسى رؤية الله دليل على جواز الرؤية وإمكانها؛ لأن موسى لا يسأل ربه شيئًا لا يجوز، إنما سأله شيئًا يجوز، ولكن لا يكون هذا في الدنيا، فالله سبحانه قال: فالله يُرى في الآخرة(18) وقوله: "ولا كيفية" أي : لا يقال: كيف يرون الله؟ لأن هذا كسائر صفات الله عز وجل لا نعرف كيفيتها، فنحن نؤمن به ونعرف معناها ونثبتها، ولكن الكيفية مجهولة ولا نعرفها، فالله أعلم بها سبحانه. هذا صريح أنه نظر إلى الله بالأبصار حيث عُدّي بإلى، فمعناه الرؤية بالأبصار، قالت المعتزلة:
|